أمسيات الطائف

/

/

أمسيات الطائف

أمسيات الطائف

في صباحٍ من صيف عام 2001، حين كانت الطائف تستعيد حضورها كمدينة للمصيف والجمال والذاكرة، برزت أمسيات الطائف كأحد أهم المشاهد الثقافية التي أعادت رسم العلاقة بين المكان والشعر والجمهور. لم تكن تلك الأمسيات مجرد فعاليات عابرة، بل كانت حدثًا يوازي قيمة المدينة نفسها؛ مدينةٍ تعانق الجبل والسحاب، وتحتفظ بتاريخٍ طويل من الحضارات التي مرّت فوق حجارتها، وتختزن ذاكرة ممتدة لسكانها وزائريها. وبين أصوات القصائد، وعبق الورد، وروائح الفاكهة التي تشتهر بها الطائف، تشكلت لوحة فنية متكاملة جعلت أمسيات الطائف جزءًا من الوجدان الثقافي، ونافذةً مفتوحة على الشعر الحقيقي بعيدًا عن التكرار وأضواء الشهرة السهلة.

لقد اكتسبت تلك الأمسيات قيمتها من قدرتها على الجمع بين الجودة والتنوع، بين حضور الشعراء المبدعين وبين الأسماء التي تحظى بجماهيرية واسعة. وهذا المزج الدقيق ساهم في خلق حالة ثقافية ناضجة، جعلت الجمهور يعود إلى الشعر بوصفه فنًا حيًا قادرًا على التأثير، لا مجرد أداء تقليدي أو تكرار لأسماء سبق استهلاكها. وفي هذا السياق، يستعيد المقال تجربة أمسيات الطائف بوصفها لحظة مهمة في مسار الحركة الشعرية السعودية، ومشهدًا يعكس روح المدينة التي طالما كانت موطنًا للجمال، وفضاءً للقاءات الثقافية والفنية.


 الطائف… مدينة ترتفع بالذاكرة قبل الجغرافيا

تتميز الطائف بأنها ليست مجرد مصيف، بل مساحة عاطفية عميقة في ذاكرة السعوديين. هناك، في سفوح الجبال التي يتداخل فيها الضباب مع النسيم البارد، يستعيد الزائر جزءًا من طفولته أو شبابه أو رحلاته الأولى. وهكذا، فإن الحديث عن أمسيات الطائف يبدأ من الحديث عن المدينة نفسها؛ مدينة احتضنت الفن والشعر قبل أن تُحتضن هي في برامج الفعاليات.

عُرفت الطائف على مدار عقود بأنها وجهة التجدد والهروب من حرارة الصيف، وفيها الأودية التي تحيط بالمدينة كخيطٍ من أخضر، وفيها الروائح التي تنبعث من حقول الورد ومن الأسواق القديمة. ومع تلك الخلفية البصرية والوجدانية، بدا من الطبيعي أن تكون المدينة حاضنة لأمسيات شعرية تعيد تشكيل مزاج الصيف السعودي بروح ثقافية رصينة.


 أمسيات الطائف في الوعي الثقافي السعودي

  بين الأصالة والاختيار الواعي

ما يميز أمسيات الطائف أنها لم تعتمد على جماهيرية الأسماء فحسب، بل بحثت عن الشعر نفسه، عن النصوص التي تستحق أن تُسمع وتُناقش وتترك أثرًا. وحين نشرت اللجنة المنظمة قائمة الشعراء في تلك النسخة، بدا واضحًا أن الاختيار كان واعيًا ومدروسًا، وأنه يسعى إلى إعادة التوازن بين “النجم” و”الشاعر الحقيقي”. وهذا التوازن تحديدًا هو ما غيّبته أمسيات أخرى ركّزت على الحضور الإعلامي على حساب جودة المادة الشعرية.

في تلك الأمسيات، ظهر الشعراء بوصفهم فرسانًا للمشهد الفني، وليسوا مجرد ضيوف عابرين. فقد جاءوا محمّلين بقدرة لغوية عالية، وبصوتٍ يعبّر عن تجارب المجتمع وقضاياه، وبحضورٍ يتجاوز حدود المنبر إلى حدود الوجدان.

 الجمهور… الحكم الحقيقي

مهما تعددت الرؤى واختلفت المقاييس، يبقى الجمهور هو الحكم الأول والأخير. وقد أثبت جمهور أمسيات الطائف وعيًا كبيرًا في تقدير الشعر الجيد، إذ كان قادرًا على التمييز بين النص الذي يحمل قيمة فنية حقيقية، وبين النص الذي يعتمد على الإيقاع دون المعنى أو على الشهرة دون الموهبة. وهذا الإقبال الواسع عزّز نجاح التجربة ورسّخ مكانتها في الذاكرة الثقافية.


 بين ذكريات الطفولة وروح المكان

من عاش جزءًا من طفولته في الطائف، خصوصًا في أشهر الصيف، يدرك أن لهذه المدينة قدرة فريدة على مزج البساطة بالجلال. إنها مدينة يمكن أن تنحت في الذاكرة لحظات لا تُنسى، مثل ضحكة طفل في بستان، أو رائحة الورد عند الفجر، أو صباحات باردة رغم حرارة الصيف.

وفي هذا السياق، تبدو أمسيات الطائف امتدادًا طبيعيًا لتلك الذكريات؛ فهي تعيد تشكيل الحنين نفسه عبر الشعر، وتمنح المكان بعدًا ثقافيًا يعيد إليه وهجه القديم. ولعل هذا الارتباط الوجداني هو ما يجعل الحديث عن الأمسيات مرتبطًا دائمًا بحديثٍ أطول وأعمق عن المدينة نفسها.


  الشعر بين النجومية والإبداع… معادلة الطائف الصعبة

  فائدة المزج بين الأسماء اللامعة والمبدعين الحقيقيين

لم يكن من السهل على أي لجنة تنظيمية أن توازن بين نجمٍ يتصدر الصفحات الثقافية، وبين شاعرٍ يملك تجربة فنية تستحق أن تُسمع. ولكن أمسيات الطائف استطاعت تحقيق هذه المعادلة، مما جعلها أكثر نضجًا وتأثيرًا. فقد فتحت المنبر لشعراء يملكون صوتًا فنيًا أصيلًا، وسمحت في الوقت نفسه بوجود أسماء مشهورة تضيف جماهيرية وحضورًا إعلاميًا.

هذه التركيبة جعلت الأمسيات أكثر قدرة على المنافسة، وأكثر استجابة لما يحتاجه الجمهور من تنوع، وما يحتاجه الشعر من تجدد.


  الأمل في استمرار التجربة وتطويرها

حين ينتهي حدث ثقافي ناجح، يظل السؤال: ماذا بعد؟ وفي حالة أمسيات الطائف، فإن التطلعات كانت دائمًا أن يستمر هذا الاختيار الدقيق، وأن تتواصل عملية التطوير والمزج بين التجارب الجديدة والتجارب المخضرمة. فالمشهد الثقافي بخاصة الشعر يحتاج إلى التنقيب المستمر عن المواهب، وإلى منح الجمهور خيارات أوسع وأكثر عمقًا.


الخاتمة

 أمسيات الطائف… تجربة باقية وأثر ممتد

في النهاية، تبدو أمسيات الطائف أكثر من مجرد فعاليات صيفية؛ إنها تجربة ثقافية وإنسانية أعادت للمدينة جزءًا من وهجها، وقدّمت للجمهور شعرًا حقيقيًا يلامس الروح. وفي ظل هذا النجاح، يبقى الأمل أن تستمر هذه الأمسيات بروحها الأصيلة، وأن تظل الطائف مدينة تجمع بين التاريخ والحضارة والفن، وتمنح الشعراء منصة تليق بموهبتهم، وتمنح الجمهور مساحة للارتقاء بذائقته.


ومع نهاية الحديث، يمكن التعمق عبر نصوص أخرى، مثل «الفصحى والعامية..! » التي تطرح سؤال الهوية اللغوية، و «شاعر القرن.. سعود بن محمد» التي تقدم توثيقًا مهمًا، إضافة إلى «الخيانة!!» التي تبحث في تعقيدات النفس، وتمنح «يا شعراء خافوا الله» بعدًا أخلاقيًا للنقاش. هكذا تظل المساحة مفتوحة للتفكير.

أمسيات الطائف

مقالات ذات صلة

هل قتلت حواء شاعرها؟

من يكتب للشاعرات؟

الشعر ورث أم وراثة؟

عندما يستيقظ القمر

الصيف والرزرزة

فهد بن سلمان الأمير الإنسان